طبيب مجتهد وماهر يجول بين طرقات المدينة وفي كل مكان
ويبحث في كل زاوية وفي وتحت إضاءة كل نجم
يضع هدفه نصب عينيه وهو " إيجاد دواء للمرض الذي خطف حياة بشر كثيرون كبار وصغار " السرطان !
جان المتهور الذي يبحث بالمخاطر ويذهب لأي مكان في باله فقط ليكتشف طرف خيط يوصله إلى اكتشاف الدواء
تخافتت أنفاسه .. ارتجفت اعصابه .. توسعت حدقتيه !
أدار المقود بسرعة وارتباك ولكن قد فات الأوان ، حدث الاصطدام !
جرت حادثة جرفت بسيارته بالتهاوي عن الجسر ...
*
" جان .. استيقظ يا جان "
فتح عينيه بتهاون وثقل في رأسه وجفنيه ; أراد ان يتلمس الشي الأبيض الملتف حول رأسه ولكن لم يقوى على رفع أصبع واحد !
حاول التحرك إلا أن جسده لا يستجيب ... لقد شل وعجزت معه الآمال والطموحات
كل شيء تهدم في نظره ..
بعد ان فقد الحركة والحبيبة والعمل والطموحات فقد معه أيضاً المرح والتآمل وأصبح كالميت الذي يأكل ثم ينام ثم يعاود الاستيقاظ ليأكل ويعاود النوم ..
يرفض ان يزوره أحد سواء كان من أخوته أو من أصدقاءه
إنه يكتفي بالوحدة والشرود واستنشاق رائحة المستشفيات الخانقة
مر أسبوع وهو على هذه الحال يبحر في ذكرياته ثم يستيقظ للواقع المخيب . ولكن هذا الاستيقاظ كان مختلف
فقد انتشله من ذكرياته صوت غمغمة موسيقية صادر من كائن بشري
أدار ببصره نحو النافذة وهو يدقق النظر بذاك الفتى الصغير يبدو في عمر الثامنة بشعر أسود كالليل يتدلى على عنقه
كان يعطيه ظهره لذلك لم يرى ملامجه الطفولية الملائكية
" أيها الصغير .. من سمح لك بالدخول ؟ "
أدار جسده الصغير وتلاقت عيناه المرحة بتلك الملامح الجامدة " صباح الخير عمي جينو "
تساءل جان من أين جاء هذا الصغير ؟ وماذا يفعله في هذه المشفى ؟
" انا ســــــــــــــــــــــــــايمون "
التقى به بيوم مصادف غريب وبقي معه يلعب ويناقش ذاك البارد القاسي ولا يمل ولا يكل
استطاع ان يعطيه الأمل وهو يقف عند النافذة ويوصف له الطبيعة والحديقة وجمال الحياة ...
ولم يتركه أبداً حتى أصبح جان يتعافى ويتحكم شيئاً فشيئاً بجسده
بدأً من الشعور بأطراف أصابعه .. حتى انه ساعد بعض الممرضين بإعطاء بعض الأوامر والتعليمات عند قيامهم بعملية جراحية للقلب وقد نجحت ....
ومن وقتها وقد عاد الأمل إلى قلبه وأصبح يبحث عن حل لاكتشاف دواء للسرطان وهو يجلس في مكانه ...
يوماً بعد يوم وهو يقوم صباحاً بمعالجات فيزيائية وفي المساء يفتح حاسوبه الخاص ليتجول فيه الشبكة بحثاً عن معلومات عن المرض
عاود البحث حتى توصل أخيراً إلى نتيجة مذهلة
انتفض جسده بأكمله بسعادة وهو ينادي " سيمون ... أيها المزعج الصغير .. سيمون تعال بسرعة "
ولكنه لم يسمع إجابة فحاول الجلوس على الكرسي المتحرك إلا أنه سقط على الأرض بعفوة
تألم قليلاً ولكنه لم يستلم لن بهجته كان أقوى ، تسلق الكرسي المتحرك واسرع خارجاً من الغرفة وابتسامة البهجة تعلو شفتيه
ليخبر سيمون الذي كان يساعده
وصل خارج الغرفة وإذ يرى الاطباء ومجموعات من البشر الغريبين كالأشباح بوجوه كئيبةة
الجميع يبكون بحزن عند ذاك السرير المتحرك .. أقترب ليرى لمن ذاك الجسد الثابت بلا روح ؟
دفع بأنامله الكرسي ليتقدم نحو ذاك السرير ; رغم ان المسافة قصيرة لا يعلم لما لم يصل إلى ذاك السرير بعد
رفع الغطاء الأبيض ليرى وجه من تحت هذا الغطاء ؟
من الميت ؟ من الشخص الذين يبكون عليه !
لماذا هو مصدوم هكذا ؟ لما قلبه يكاد يتوقف عن النبض !
تلك الأهداب الطويلة ذاك الوجه الملائكي الأبيض .. الملامح المسالمة
"سيمون "
نائم بسلام ... سيمون نائم نوم مؤبد لن يسمع أي من أصوات الواقع ....
تردد في ذهنه صوته وهو يناديه " صباح الخير عمي جينو "
" عمي جينو .. أحضرت لك هدية "
" عمي جينو أنا لا أحب الأدوية .. لا أريد تناولها "
ضحكاته ... تمرده ... تصرفاته المشاغبة " سيمون "
بكى كثيراً وتقطع قلبه حزناً وكانت الصدمة الكبرى عندما علم بأن سيمون مريض بمرض السرطان ... وهذا ما كان سبب موته ورحيله !
قذفت به الكآبة حيث كان ببداية الطريق ; الوحدة ، الكآبة ، العزلة هو كل ما أصبح يعرفه
ولكن الأطباء لم يوفقوا المعالجات الفيزيائية لجسده ..
أفاق من نومه وتلاقى بصر مع إشعاعات الشمس التي تختلس النظر إليه من خلف الستائر .. هناك كان يقف سيمون
استقام في جلسته وحرك قديمه لتلامس بلاط الأرضية الباردة
رفع جسده وثقله على قدميه فتعثر ! حاول النهوض مجدداً ولكنه تعثر أيضاً
فأكمل زحفاً وشوقاً وفضولاُ نحو تلك النافذة التي كان يتطلع منها سيمون ويوصف له الحياة في الخارج
أمسك في الستار وسحب نفسه نحو الأعلى بصعوبة
فتح النافذة بابتسامة باتت تختفي وتتلاشى
لا حديقة .. لا نهر .. لا طبيعة ، ليست سوى ساحة كبيرة لوقوف السيارات ّ
أرض جرداء يابسة !
تمتم باندهاش " أين النهر ؟ أين الملعب ؟ أين الحديقة المليئة بالأزهار ! ؟
أتاه صوت ثقيل من الخلف " بماذا تهذي يا جان ؟ منذ أن بُنيت المشفى وموقف السيارات هذا بجانبه "
تهاوى جسد جان على الأرض بخيبة وصدمة كبيرة
" كل ذاك الوصف .. كان من مخيلة ذاك الطفل الصغير ليدعمني بالأمل ! "
أعطاه الآمل الكبير ثم رحل مع النسيم .
*
مرت الأيام والسنين وأكمل الجميع حياته ، أستطاع جان أن ينقذ أرواح مئات من الأطفال والكبار المصابين بمرض السرطان
وفي النهاية تزوج ورُزق بطفلٍ وأطلق عليه اسم " سيمون "
الطفل الذي دخل حياته ولونها وترك داخلها أثراً عميقاً .. لن يمحيه المصاعب واآلام الحب والتوهان .